رمـاد البراكـين وتـأثـيرهُ عـلى حركة النقل الجوي والطـائـرات



أربك القرار الذي أصدرته هيئة الطيران الأوربية بإيقاف الطيران على أوربا، الكثير من الناس وأوقعهم في حيرة، فمن المتابع العادي لنشرات الأخبار، إلى المختص في مجال الطيران والنقل الجوي. والسبب، نشاط بركان أيسلندا بعد مائة عام هادئة، فبتاريخ الـ15 من شهر أبريل (2010) تم إيقاف الطيران بالأجواء الأوربية بعد أن ارتفع رماد البركان إلى أكثر من 10 كيلومترات (33 ألف قدم)، وهو المجال الذي تحلق فيه طائرات النقل التجارية. الأخبار –حتى كتابة الموضوع- كشفت عن خسائر كبيرة لشركات الطيران، ومكاتب السفر، قدرت بأكثر من مليار دولار، مؤخرة مالا يقل عن 80 ألف مسافر وحبسهم في المطارات1. وبمقدار ما أربك هذا الإيقاف شركات الطيران، فإنه كان فرصة لإعادة النظر في مستوى التحذير من رماد البراكين وطبيعته، والبحث في السبل المثلى لتخطيه.

والسؤال الذي يطرح نفسه، هل لرماد البراكين كل هذا التأثير على الرحلات الجوية والطائرات؟
الإجابة الأولية نعم. فالسجلات تؤكد أنه أحد أسباب حوادث الطائرات.
فخلال السنوات الـ30 الماضية، واجهت أكثر من 90 طائرة تجارية عاملة غيوم الرماد البركاني وتعرضت لأضرار جسيمة نتيجة لذلك2. فمثلاً: في العام 1982 فقدت طائرة من نوع بوينج 747 تابعة للخطوط البريطانية، كانت تقوم برحلة مجدولة من لندن إلى أوكلاند-نيوزيلاند، قوة الدفع لمحركاتها الأربع، بعد انطفائها، إذ صادف تحليقها فوق بركان جالونجونج (Galunggung volcano) بأندونيسيا. هذه الطائرة فقدت ارتفاعها الذي كانت تطير عليه (36 ألف قدم) لتهبط حتى (12500 قدم)، قبل أن يتمكن طاقمها من إعادة تشغيل المحركات، والهبوط بأمان. ليتم من بعد تغيير محركات الطائرة الأربع قبل إعادتها للخدمة3.

إذا أين تكمن مشكلة الرماد؟
المشكلة مع الرماد البركاني، أنه لا يمكن رصده عن طريق رادار الطائرة، كالسحب، لأنه مكون من خليط من المواد الصلبة المتطايرة الخفيفة، الأمر الذي لا تنعكس معه الموجات عائدة للاقط جهاز المسح الجوي للطائرة (رادار الطقس). وحتى النظر المجرد عل الارتفاعات العالية (أكثر من 30 ألف قدم) لا يمكن من التفرقة بين سحابة الرماد والسحب العادية، خاصة أثناء الطيران الليلي، وهو الأخطر.
المسألة الأخرى، أن منظمة الطيران العالمية (International Civil Aviation Organization-ICAO) خاصة من خلال قسمها الخاص بسحب الرماد البركاني وما تقدمه من دعم وإرشاد (Volcanic Ash Warnings Study Group)، لم تحدد معياراً ثابتاً أو مرجعاً يمكن الاعتماد عليه، يمكّن الهيئات المحلية للطيران من تقرير تسيير أو إيقاف الرحلات. فهذا القسم يعتمد بالأساس ما تقدمه مراكز الرصد من بيانات تخص النشاط البركاني على الأرض.

فالعنصر الأهم و المؤثر في هذه المسالة، هو كثافة الرماد، فهذه النسبة وحدها القادرة على تحديد مدى خطورة الطيران. ففي هذا الصدد ذكرت وكالات الأنباء، أن بعض الشركات قامت بإجراء بعض الرحلات الاختبارية –تحت الشروط-، وعادت الطائرات سليمة وحتى بعد الكشف لم يجد المهندسون ما يمكنه أن يؤثر على محركات وأجهزة الطائرة. وهذا يشبه ما يحدث في الكثير من الدول عن الطيران خلال الجو المغبر، فأجهزة تعمل بشكل طبيعي دون تأثر.

العنصر الآخر المؤثر، هو دقة جزيئات الرماد، فالإشارة السابقة بخصوص الطيران في الأجواء المغبرة، تتعلق بالرمل، ولو جمعنا مسألة الكثافة ودقة حجم جزيئات الرماد، أمكننا الوقوف على صعوبة الموقف، وأن الإجراء الذي اتخذ بإيقاف الطيران، هو قرار صائب خوفاً من حدوث أي خسارة في الأرواح.
ثمة عامل آخر، حول أوربا إلى منطقة محظورة، وهو الريح، التي نشرت سحابة الرماد على مساحة واسعة، وبحسابنا لسماكة هذه السحابة، يمكننا نخيل الأمر.


قد نكون أطنبنا بعض الشيء فيما يخص مسألة سحب الرماد، لكن الأمر كان من الأهمية لإعطاء المسألة صورتها الشاملة، لنأتي للموضع الذي يشغل بالكل الكثير، وهو تأثير الرماد على الطائرة.

في الحادثة التي أوردنا سالفاً، والتي تخص الطائرة البوينج 747، ذكرنا إنها فقدت محركاتها الأربعة، والسبب إن الرماد يدخل مع الهواء إلى قلب المحرك، ونظراً لارتفاع درجات حرارة في قلب المحرك، فإن مكونات الرماد تنصهر وتترسب على ريش الضواغط (Compressors) والتربينات (Turbines) و جدران غرفة الاحتراق (Combustion Chamber)، الأمر الذي يعيق احتراق خليط الهواء-الوقود، مما يؤدي لانطفاء المحرك. وفي حال كانت كثافة الرماد عالية فإنه يسد مداخل الهواء عبر ريش الضواغط بحيث يحدث الانطفاء بطريقة أسرع، وفي هذه الحالة يُعمد إلى تغيير المحركات كما أشرنا.

هذا ويؤثر الرماد أيضاً على العديد من أنظمة الطائرة، منها منظومة تكييف الهواء، فترسب الرماد على المبادلات الحرارية (Heat Exchangers) متسرباً إليها عن طريق ممرات الهواء، يقلل من كفاءتها، ويعيق إتمامها لعملية التبريد. كما إن الرماد يترسب على فتحات التهوية الخاصة بصمامات منظومة الضغط (Pressurization System)، الأمر الذي قد يتسبب في فقدان الطائرة للضغط (loss of cabin pressurization).
والمعنى إن الرماد سيتسرب مع الهواء عبر فتحات الطائرة المواجهة، بالتالي حال ترسبه يجعل من الصعب الحصول على قراءات صحيحة، على سبيل المثال: ارتفاع الطائرة، وسرعتها، نتيجة إعاقة الرماد لمرور الهواء بشكل منتظم عبر فتحة البيتوت (Pitot tube).

أما بدن الطائرة، والذي يحلق بسرعة تصل إلى 0.8 ماخ، فإنه حال دخوله لسحابة الرماد، فكأنه تحت تأثير آلة سفع الرمل (Sandblaster)، الأمر الذي قد يؤدي إلى تقشر طبقة الطلاء، خاصة في مقدمة الطائرة والأجنحة ومجموعة الذيل، حال كان الرماد كثيفاً، وقد يخدش نوافذ الطائرة خاصة حاجب الريح (Wind Shield) لمقصورة القيادة.
كما وإن حركة الرماد على بدن الطائرة ستزيد من تراكم الشحنات الكهربائية على بدن الطائرة، مما يؤثر على الأجهزة الإلكترونية للطائرة.

هذا وحال هبوط الطائرة، فإنها تخضع لمجموعة من الفحوصات الخاصة للكشف عليها، وتحديد مدى ما تعرض له من أضرار، لمعالجتها وإعادتها للخدمة.


على هذا الأساس هل من الممكن تفادي السحب أو تفاديها؟
كما نوهنا سابقاً، نظراً لطبيعة سحب الرماد، فإنه لا يمكن لرادار الطائرة رصدها، لكن ثمة مجموعة من الإشارات تنبه الطيار أن الأجواء من حوله غير نظيفة، منها4:
- انبعاث روائح الكربون أو الكبريت.
- وجود طبقة ضبابية على حاجب الريح لمقصورة القيادة ونوافذ الطائرة، وترسب خطوط داكنة عند الحواف.
- تغير معطيات المحرك، خاصة الحرارة التي ترتفع. وأيضاً طبيعة عمل المحرك.
- تذبذب قراءة عداد سرعة الطائرة أو انخفاض القراءة.
- تغير مفاجئ لضغط الطائرة.
- توهج أطراف الأجنحة نتيجة مراكمة الشحنات الكهربائية.
وفي حال تأكد قائد الطائرة من وجوده داخل سحابة رماد بركانية، فثمة مجموعة من الإجراءات عليه إتباعها –طبقاً لدليل الطائرة- للمحافظة على سلامة الركاب.

إن قوى الطبيعة تؤكد مدى ضعف الإنسان وآلته عن الوقوف أمامها، حتى وهو يخرق قوانينها.
___________________
1- الأرقام الواردة هنا هي عن مواقع وكالات الأنباء العالمية: الجزيرة - BBC
2- عن موقع شركة البوينج، النص الأصلي (In the past 30 years, more than 90 jet-powered commercial airplanes have encountered clouds of volcanic ash and suffered damage as a result).
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.



* نشر بصحيفة الشمس الليبية

تعليقات

‏قال bumedian
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...


شاهدت مرة حلقة من برنامج في قناة ناشيونال جيوجرافيك حدثت فيها احداث غريبة لطائرة لم يعرف سبب الاحداث الا عند هبوطها و الذي كان اشبه باعجوبة ...

فما حدث هو ان محركات الطائرة الثلاثة توقفت .. وبداء كان هناك رائحة حريق لاسلاك الطائرة داخلها .. و بداء الكابتن في محاولة فهم السبب دون جدوى فكل المؤشرات طبيعية الا ان المحركات لا تعمل ... فقرر اللجوء الى اقرب مطار ... و اعتقد ان المنطقة كان في جنوب شرق اسيا او ما شابه ...
وفجأة بدأت المحركات في العمل ... وعاد كل شيء الى طبيعته ...
ولكن بعد حين عاد الامر الغريب بتوقف المحركات ...
وما ان انتهت الرحلة بالهبوط في مطار قريب حتى اكتشفو انهم كانو داخل سحابة دخان احد البراكين ... و تم تصوير الطائرة التي كانت وكانها فعلا قد مرت بمدفع الرمل الذي ازال قشرة الطلاء التي على الطائرة فكان لونها لامعا كقطعة حديد ... و المحركات كانت قد ترسب عليها الكثير من الرماد البركاني الذي هو في حقيقته صخور صغيرة جدا

و قد وضع ذاك الامر في برنامج التدريب لكي يتم التعرف على الامر و معرفته و كيف التعامل معه فقد كانت تلك المرة الاولى التي يتواجه فيها قائد طائرة بهكذا وضع ...

عافانا الله و اياكم من كل سوء ...

بارك الله فيك

شكرا لك

خالص تحياتي
‏قال Eng.Ramez Enwesri
أخي الكريم شكرا لهذا المرور الكريم

الرحلة التي تحدثت عنها هي المذكورة في المقال. وهذه الرحلة مشهورة وتعتبر مرجع في التدريب فيما يخص الطيران داخل السحاب البركاني. غن نفسي درست هذه الرحلة ضمن المنهج.

لك كل التحية والود