لم أعد أذكر من هو صاحب المكالمة، ربما
حتى لا أربط بينه وبين الحدث. كنت بعدُ لم أفق من صدمة الخبر وصديقي يقفل الخط.
- ضربوا الهنجر.
دارت برأسي أكثرُ من سؤال، في محاولة
البحث عن إجابة الـ(لماذا) هذه: لماذا قصف الناتو البريقة؟. كانت أصبعي تضغط على
زر جهاز التحكم منتقلاً بين المحطات الإخبارية، لاستجلاء الخبر، ومشاهدة الصور،
ولم أفلح. عدت على صوت زوجتي وهي تناديني:
- صور البريقة!!!
لم أستطع كبح دموعي وأنا أرى مشهد حضيرة
الصيانة. هيكلاً معدنياً على كومة من رماد، مر أمامي شريط ذكرياتي طوله أكثر من
سبع سنوات، منذ أول يوم عمل بهذه الحضيرة، وحتى آخر يوم عندما أغلقناه وأمّنا
الأبواب، وخلسة اختطفت قبلة من طائرتي الجميلة (5A-DSC)،
هامساً لها:
- لا تخافي سنعود قريباً.
كان آخر عهدي بالبريقة يوم الخميس 3-3-2011،
بعد أن علقنا هناك، وبعد أن دخلها الثوار للمرة الأولى. مازلت أذكر معركة تحرير
البريقة الأولى، الرصاص وهو يصل المنزل الذي يسكنه طاقم الصيانة، ومن بعد أصوات
المدافع. وكنا شهوداً على الطائرات وهي تحلق ملقية بقنابلها حول (إجدابيا). عايشنا
لحظة النصر، شاركنا فيها بكل جوارحنا، المؤسف أني لا أحتفظ بأي صورة لتلك الفترة،
فلقد قمت –صحبة الأصدقاء- بمسح ما تحتويه أجهزتنا من صور وملفات مصورة، عند
خروجنا، خوفاً من التفتيش.
كنا قد خرجنا من صلاة الظهر عندما
وصلتنا الأخبار، بأن العيادة استقبلت الطيّارَيْن الذين قفزا من طائرتهما بعدما
رفض أحدهما تنفيذ الأمر بقصف أحد الأهداف جنوب (إجدابيا). وهي ذاتها العيادة التي
عالجت المرتزقة الفارين من بنغازي، بعد أن أمسك بهم ثوار البريقة. ومازال حديثنا
مستمر بشكل أساسي يدور حول طريقة الخروج والعودة إلى (طرابلس)، وفي ذات الوقت، الاطمئنان
عن زميلين أجنبيين كانا برفقتنا في (البريقة)، ونعيد قصة أحدهم، وهو يبلغنا إن
صورته تتصدر الصحف ونشرات الأخبار، كونه البرازيلي الوحيد العالق في ليبيا، ننغمس
في الضحك كما كان هو يفعل. أما الآخر فكان كل همه الاطمئنان على زوجته التي تنتظر
مولودها بين اللحظة والأخرى محاولاً تطمينها عبر الهاتف، متصنعاً ابتسامة، تخفي
خوفه من المجهول.
غادرنا (البريقة) بعد أن تأكدنا من صعود
"أندري" و"وان" الحافلة وسفرهما إلى بنغازي، للخروج من ليبيا،
ساعة وكنا حملنا الأساسي وحشرناه في الـ(البيجو 506)، كنا خمسة أشخاص قاصدين
طرابلس، التي وصلناها ثاني يوم. بعد رحلة طويلة هي العذاب.
الخبر والصور تتناقلها وكالات الأنباء،
أحاول مشاهدة ما يمكنني من صور، والقناة الفرنسية تعرض صوراً قريبة من حضيرة
الصيانة، هي مدمرة بالكامل، ومن الواضح إنه لم تنجو أياً من الطائرات التي كانت بداخلها.
صورة أخرى من زاوية مختلفة المخزن أصيب أيضاً والورش.
ظل السؤال الذي لا يبرح رأسي لماذا قصف (الناتو)
البريقة؟
ما الذي تعنيه حضيرة تضم مجموعة من
الورش ومخزن، ملحق بها بعض المكاتب، تحضن إليها ثلاث طائرات ولا أجمل منهن خاصة الـ(5A-DSC)،
الشابة الجميلة، والتي تحب أن تستعرض فتوتها وهي تنطلق على المدرج، لتعانق السماء
في حرارة، أو وهي تتهادى في غنج حاطة بدلال على مدرج الهبوط، زاعقة: ها أنا ذا؟.
كنت كلما تذكرت الحادثة، أبكي، زوجتي
تعتبر إن (البريقة) ضرتها، وبالرغم من ذلك، أحست بوجعي فشاركتني. تسألني الصبر،
وفي داخلي:
- هل يعقل أني لن أتمكن من رؤية الـ(5A-DSC / 5A-DKE
/ 5A-DSO) مرة أخرى؟، هل
يعقل أني لن أعود لحضيرة الصيانة بمطار (مرسى البريقة) مرة أخرى؟
بعد تحرير طرابلس، كان باب (لماذا) قد
انفتح على كثير الإجابات، ومنا لماذا ضرب (الناتو) حضيرة الصيانة بمطار (مرسى
البريقة)، وأكثر من مرفق خدمي بذات المنطقة بموقع (شركة سرت للنفط). مجموعة من
الصور التقطها أحد الأصدقاء من داخل الحظيرة يوم 29/3/2011، تظهر وجود مجموعة من
الدبابات وبعض الأسلحة، كما تحولت حجرة سيارة الإطفاء إلى مربض لأحد الدبابات. وهذا
يفسر لماذا تم قصف أكثر من موقع بالبريقة، فلقد حولها النظام البائد إلى مراكز
عسكرية لخدمة آلة قتل الليبيين. كما عمدت كتائبه إلى تخريب مدرج الطيران بحيث لا
يمكن استخدامه، ونصب مجموعة من المدافع فيه.
لكن ثمة سؤال مازال يلح في خاطري: هل
أعود يوماً للبريقة؟
نشر بميادين:
العدد 50 – 24 أبريل 2012
تعليقات