أثارني منذ مدة قصيرة موضوع نُشر في قناة CNN اﻷميركية اﻹخبارية نقﻼ عن بحث أجرته مجلة «ريدرز دايجست» عن حياة الطيارين وما يتعرضون له خﻼل مزاولتهم لمهنة الطيران، والتي كشفت الكثير والعديد من الحقائق المذهلة والمثيرة، وهو ما ارتأينا أن نتناول بعضا منها في صفحة الطيران لهذا اﻷسبوع، كي نوضح بعضا من جوانب مهنة الطيار بمفهومها العلمي والمهني، من منظور مختلف. فإليكم اﻷسرار.
ﻻ تقتصر مهنة الطيار على قيادة الطائرة فحسب، بل تتعدى ذلك في تحمّله المسؤولية الكاملة تجاه محافظته على سﻼمة الطائرة والركاب، ولكي يكون الطيار مؤهﻼ لتحمّل تلك المسؤولية، ﻻبد من أن يكون ذا مهارات قيادية وكفاءة وقدرة على اتخاذ القرار المناسب، وﻻ يتم هذا اﻷمر إﻻ بالتدريب السليم والمناسب، فضﻼ عن رغبته المستمرة في اﻻطﻼع، بغية اﻻستزادة بالمعلومات ومواكبة ركب التطور الذي يتسم به عالم الطيران، وﻻبد أن يتحلى الطيار بأخﻼق عالية وان يبتعد عن الغرور، فالغرور يؤدي الى الوقوع في الخطأ، والخطأ هو الطريق السريع الى الكوارث، وقد اثبتت الدراسات والبحوث ان %80 من العوامل المسببة للحوادث الجوية سببها العامل البشري، لذا فإن الطيران اﻵمن يعتمد بالدرجة اﻷولى على حسن تصرف الطيار وسرعة بديهته، واﻷهم يقظته الكاملة.
تأثير الطيران على الطيار
يتطلب الطيران في معظم اﻷحيان تركيزا عاليا الى جانب يقظة كاملة من قبل الطيارين، ومع زيادة ساعات التحليق، فإن أولئك الطيارين قد يتعرضون لﻺجهاد وتشتت الذهن الى جانب الضغوط المحيطة بحياتهم العملية، ولهذا قامت ووكالة الطيران والفضاء الوطنية (ناسا) منذ عام 1989 بدراسة هذه الظاهرة، وأجرت تجارب عدة لقياس مدى تأثيرها على سﻼمة الطيران، وقد توصلت الى أن الطاقم الذي يأخذ قسطا من الراحة، خصوصا على الرحﻼت البالغة الطول، مدته ﻻ تتجاوز 40 دقيقة يكون أكثر تركيزا ويقظة من أولئك الذين ﻻ يأخذون أي فترة للراحة، خصوصا في مرحلة اﻻقتراب من المدرج والهبوط، التي تعد اﻷكثر حرجا. لقد تبين أن غفوة ﻻ تتجاوز الـ30 ثانية أثناء عملية الهبوط في نهاية رحلة جوية طويلة، قد تجعل من الطيار يغفل عن وميض لمصباح تنبيه لخلل ما قد يطرأ على الطائرة أثناء ذلك، كافية لتهديد حياة الركاب الى جانب الطاقم وتعريضهم للخطر.
اﻵثار الصحية
تحدث تقرير طبي عن حاﻻت عديدة لطيارين تعرضوا الى ما يعرف بفقدان الوعي بالموقع أو الحيز المكاني الذي هم فيه وهم يحلقون بالطائرة، وهو ما يعرف علميا بمصطلح Spatial Disorientation ويتوهّم الطيارون المصابون بهذه الحالة بأشياء غريبة بعيدة عن الواقع، على سبيل المثال كأنهم جالسون خارج الطائرة أو على الجناح، لكن اﻷدهى من ذلك هو أن التقرير يرجح أن أكثر من ربع الحوادث التي وقعت قد تعود الى تعرّض الطيارين الى هذه الحالة أو اختصارا SD، وتحدث مثل هذه الظاهرة للطيارين، وحتى اﻷشخاص الذين يمر عليهم الوقت دون الخلود للراحة التامة أو عند اختﻼف أوقات العمل لديهم من ليل إلى نهار أو العكس، أو ما يُعرف باضطراب الساعة البيولوجية أو JET LAG.
اﻷشعة الكونية
أظهرت دراسة طبية خطرا جديدا يتهدد العديد من رواد الجو من الطاقم الطائر (طيارين ومضيفين ومضيفات)، وقليﻼ من الركاب الذين يتنقلون بصورة شبه مستمرة بواسطة الطائرات، حيث كان معظمهم يتعرض ﻹشعاعات تهدد بإصابتهم بالسرطان، وتبين بعد تلك الدراسة أن المسبب لم يكنبالحسبان، فلم يكن تلوثا بواسطة المنشآت النووية وﻻ حتى التجارب، ولم يكن ايضا من مكونات صناعة الطائرات او المحركات، ولكن تبين فيما بعد انه صادر من خارج اﻻرض، وبالتحديد من الفضاء السحيق يطلق عليها ‹اﻻشعة الكونية› Cosmic Rays وهي عبارة عن جسيمات مشحونة غير معروفة المصدر، تتنقل عبر الفضاء بسرعة مقاربة لسرعة الضوء. وتعتبر هذه اﻻشعة من اخطر اﻻشعاعات التي يمكن ان يتعرض لها اﻻنسان اثناء وجوده على متن اي مركبة خارج الغﻼف الجوي (في الفضاء الخارجي تحديدا)، وبفضل ذلك الغﻼف الجوي المحيط باﻻرض، فإننا بمنأى عن خطر التعرض لهذه اﻻشعة القاتلة. وقد كشفت الدراسات التي اجرتها فرق طبية عالمية ان التعرض لﻼشعة الكونية بصورة كبيرة يسبب في كثير من اﻻوقات سرطان الدم (اللوكيميا Myeloid Leukemia) وفي احيان اخرى جميع انواع اﻻمراض السرطانية، خصوصا ان الدراسة بينت أن التحليق بالطائرة على ارتفاع 37 الف قدم لمدة 4 ساعات لطيارين تجاوز معدل تحليقهم بالطائرة 5 آﻻف ساعة طيران يوازي التعرض الى عمل صورة اشعة X كاملة للصدر. كما دلت الفحوصات على ان نسبة التعرض لﻼشعاع لدى طاقم الطائرة هي اعلى من تلك التي لدى العامة من الناس، ناهيك عن اولئك الذين يعملون في المفاعﻼت النووية.
اﻵلة تتحدى اﻹنسان
لقد أضحت الطائرات أكثر قدرة من حدود القدرة البشرية، ولهذا بات من الضروري أن يتم تجهيز الطاقم بتجهيزات تكفل لهم مواكبة ذلك التطور، ومع دخول الطائرات الحديثة القادرة على الطيران من دون توقف لمدة قد تصل الى 20 ساعة مثل ايرباص A340-500 وبوينغ B777-200LR الى الخدمة، فان شركات عدة قد بدأت بتطبيق قوانين هيئة الطيران المدنية العالمية مثل FAA وغيرها التي تنص على أن يكون هناك طيار احتياطي ثالث عندما تتجاوز مدة الرحلة الجوية 8 ساعات، فيما يتعين أن يكون هناك طاقم بديل أي طيارين احتياطيين للرحﻼت التي تتجاوز مدتها 12 ساعة، الى جانب كابينة للراحة عند تبديل المناوبة بينهم، وقد جُهزت بوينغ وايرباص طائراتها الحديثة من فئة البدن العريض بتلك الكبائن الموضوعة في سقف الكابينة الرئيسية للطائرة.
ﻻ بد من إيجاد حل
رغم تطور البرامج التدريبية وتطور الطائرات التي باتت تخفف عن الطيارين الكثير من اﻷعباء، فان المشكلة الحالية ﻻ تزال في تفاقم مستمر، فسوء تنظيم الرحﻼت وتوزيع كادر الطيارين عليها من قبل الشركات قد أدى الى مزيد من ارهاق الطيارين، اﻷمر الذي جعلهم أشبه بآﻻت تعمل على مدار الساعة دون اﻻلتفات الى قدراتهم الذهنية والجسمانية، عدا التوتر واﻻزعاج، ولهذا نجد أن العديد من الطيارين يكونون مرهقين جدا وﻻ يخضعون في الغالب للراحة بسبب ضغوط الحياة اﻻجتماعية اﻷخرى، وبالتالي فان المشكلة تحتاج الى حلول فنية تكفل ربحية الشركات في مقابل الحفاظ على سﻼمة الطيارين وبالطبع تبقي على الركاب أحياء يرزقون!
3 أشياء ﻻ يحبذ الطيارون قولها للركاب مباشرة
1- «نحن نتجه للولوج في عاصفة رعدية»، بدﻻ من ذلك يقولون: «نتوقع بعضا من المطبات الهوائية الشديدة» أو «المطر الشديد».
2- «أحد محركات الطائرة قد توقف عن العمل»، بدﻻ من ذلك يقولون: «لدينا خلل فني»، وفي الغالب ﻻ يطلعون الركاب على ذلك حيث من النادر أن يحس الركاب بالخلل.
3- «نالرؤية في مطار الهبوط هي صفر درجة»، وبدﻻ من ذلك يقولون: «نتوقع ضبابا نسبيا في مطار الهبوط».
كل التوفيق والاحترام الى جميع الطياريين ..
تعليقات