حتى السبعينات كانت الاقتصاديات الإسلامية لا تزال في المهد , ويشير باحث إسلامي الى ان فكرة الاقتصاد الاسلامي كانت غريبة كغرابة فكرة "الويسكي الاسلامي", لكن هذه الفكرة سرعان ما تطورت في ماليزيا خاصة والتي لها القدح المعلى في الاستثمارات الإسلامية وتوظيفها معتمدة على ظاهرة "القبلية الاقتصادية" حيث يتم توجيه أموال المسلمين بفتوى للاستثمار في مكان ومجال معين
ثلاثة عوامل كانت السبب في ازدهار الاقتصاد الإسلامي ونجاحه, الأول أزمة النفط بين عامي 1973و 1974 والتي أدت الى تدفق رساميل طائلة الى الدول العربية المنتجة للنفط وقضت بذلك على مشكلة غياب الرساميل في البلاد الإسلامية, كانت هذه الرساميل سببا في تأسيس اول بنك إسلامي وهو "البنك الإسلامي للتنمية" .
العامل الثاني كان درساً قاسياً للتجربة الماليزية, وهو ازمة الأسواق الاسيوية عام 1997 حيث تم بين ليلة وضحاها سحب اموال بقيمة 12 مليار دولار من الدول الاسيوية الخمسة (كوريا الجنوبية واندونيسيا والفلبين وتايلند وماليزيا) بصورة مفاجئة وغير متوقعة .
العامل الثالث أيضا كانت له صلة مباشرة بماليزيا, تمثل باحداث أيلول الأسود في أمريكا وتفجير مركز التجارة العالمي وما اعقب ذلك من تخوفات الاثرياء المسلمين على اسثماراتهم في الغرب خشية العقوبات الامريكية .
ماليزيا فكرت أولا ونفذت, فقد طلب مهاتيرمحمد المساعدة من اخوانه المسلمين وتوجيه الاستثمارات الى بلاده بدل الشروط القاسية لصندوق النقد الدولي, ونجحت هذه التجربة وتدفقت الأموال والاستثمارت على ماليزيا فظهر الهوس الإسلامي لماليزيا وظاهرة " الحلال " التي تلصق بأغرب الأشياء حتى ظهرت في منصات التعارف الإسلامي للشباب الاعزب "Halal Speed Dating " !.
اتجهت الأموال الإسلامية مؤخرا للاستثمار في قطاع الطيران, مستهدفة بالأساس المسلمين المحافظين وذلك بانشاء شركة راياني اير في ماليزيا, الشركة وان كانت رابع شركة "إسلامية" في العالم بعد الخطوط الملكية في بروناي(رويال بروناي) والخطوط الجوية الإيرانية (ايران اير) والخطوط الجوية الملكية السعودية, لكنها اخذت صدى إعلامي كبير عند انشائها, فقد فرضت الحجاب على المضيفات وقراءة الادعية والاذكار قبل الإقلاع ومنع الكحول, ورحلاتها كانت اقتصادية ومحلية, تشغل طائرتان من طراز بوينغ 737 وكل رحلة تستوعب 85 راكبا, مع خطة توسعية طموحة في ماليزيا والخليج حيث تلقى ألافكار الاسلامية للشركة سوقاً رائجاً .
تفاءل الكثير من الإسلاميين والعاملين في القطاعات المالية الإسلامية التي هدفها تحقيق ملائمة مع الشريعة الإسلامية بانطلاق نموذج جديد للطيران الإسلامي, بل دعى البعض الى المضي قدما في الفكرة بحيث لا يقتصر التمويل الإسلامي فقط على الخط الأول ولكن ان تكون هنالك اسلمة شاملة في هذا المجال بحيث تكون كل مخارج الأموال متوافقة مع الشريعة الإسلامية في مجال الطيران ( حجاب و منع بيع الكحول وحتى تخصيص مصلى في الطائرات) ووصلت الأفكار الطموحة الى طرح فكرة الاسلمة الشاملة لكل العمليات الارضية والمطارات أيضا .
لم تمض على الشركة فترة ثلاثة شهور حتى ظهر خبر اغلاقها من قبل السلطات الماليزية صادماً لتكون بذلك اقصر شركة في عدد الاميال التي قطعتها طائراتها, لكن خبر الاغلاق هذا عند السلطات المعنية ليس مفاجئاً, بل هو انفجار لتراكمات سابقة يستحيل معها بقاء الشركة كناقل جوي.
ثمانية أسباب رئيسة كانت السبب في هذا الاغلاق ونوردها هنا للمهتمين بالنقل الجوي كما تناولتها الصحافة الماليزية لأهميتها وتاثيرها على سمعة شركات الطيران رغم ان بعضا منها قد لا يكون مخالفة لقانون ما لكن النقل الجوي اخطر أنواع النقل ولا مناص للناقل الجوي الا التعامل باحترافية عالية في هذا السوق شديد المنافسة وشديد الخطورة .
1 بطاقات الصعود الى الطائرة (البوردينغ) مكتوبة بخط اليد : وهذا ما لا يمكن أن تصادفه في أي مكان بالعالم, وقد أثارت هذه القضية فضيحة في ماليزيا بعد ان تم نشر نموذج لتك البطاقات في وسائل التواصل الاجتماعي. فحتى وان كانت مقروءة بشكل واضح فهذا يدل على عدم احترافية الناقل الجوي وقد وصفت السلطات المسؤولة في ماليزيا هذه الطريقة البدائية بانها "يمكن ان تشكل تهديداً امنيا" حيث يمكن تغيير الحبر من غير صعوبة تذكر.
2 إضراب طيار في الشركة عن العمل مما أدى الى إعادة جدولة رحلة للشركة واثار استياء المسافرين من هذا الخلل. والاضرابات تحدث دائما وليست غريبة في ماليزيا لكنها تحصل عند مزودي الخدمات غالبا لا الطيارين .
3 عدم حصول الموظفين على رواتبهم : فلم يكن طيار الشركة هو الوحيد المستاء, فقد هدد 416 موظف في الشركة باللجوء الى رفع دعاوى قضائية ضد المدير التنفيذي للشركة لعدم دفع مرتباتهم يضاف الى ذلك ان الاستقطاعات من رواتبهم منذ شهر سبتمر الماضي لم تذهب الى هيئة الضمان الاجتماعي والصندوق الادخاري للعاملين كما يجب .
4 بينما كانت راياني أير تسعى الى التعافي من عثراتها المالية اتجهت شركات الطيران المنافسة الى الاقتراض للخروج من ازماتها, فتمكنت من تقديم الخدمات التي عجزت شركة راياني عن تقديمها نتيجة عدم توفر السيولة المالية المناسبة, وكان التأثير اكبر حين عرضت الخطوط الجوية الماليزية على ركاب راياني اير الذين تقطعت بهم السبل فرصة إعادة حجز في خطوطها بأسعار مخفضة وعرضت شركة اير اسيا خصم 50% على جميع ركاب راياني اير الذين لديهم رحلات حجز مؤكدة .
5 تهرب الشركة من التحقيق : فعندما تم استدعاء الرئيس التنفيذي للشركة في شهر مايو الماضي لاجراء التحقيق معه من قبل وزارة الطيران المدني تعذر عن الحضور لاسباب صحية, رغم انه لا يمكن التقليل من أي عارض صحي لكن مدير الشركة ينوء بمسؤوليات كبيرة عليه الالتزام بها امام شركته والعاملين وهذا ما انعكس على سمعة الناقل الجوي ككل سلبا .
6 رحيل مبكر للكوادر المتمرسة : في البداية وخلال تقديمها للحكومة كمستثمر جوي لغرض الموافقة قال عنها وكيل وزير النقل الماليزي انها تحتوي عدد لا باس به من الموظفين ذوي الخبرة ولكن هذه الكوادر الخبيرة تركت الشركة بعد فترة قصيرة لاسباب مجهولة وكان من الصعب على الشركة بعدها تحسين صورتها امام الزبائن والمستثمرين المحليين .
7 نتيجة لعدم وفاء الشركة المتكرر بالتزاماتها اضطرات كثيرا لاعادة أجور تذاكر السفر لزبائنها وهذا اثر على قدرتها كثيرا في جني الأرباح وتضرر سمعتها .
8 الزبون دائما على حق كما يقال, ومن الصعب ان يكون الشخص سعيد مع شركة طيران عاجزة عن ايصاله الى الجهة التي يريدها, فكان الزبائن في تعاملهم مع الشركة الطرف الخاسر دائما وغضب الركاب هذا قد ظهر علناً في المطارات وكانت القشة الي قصمت ظهر البعير في تعاملها مع الزبائن .
الشركات التي أساسها ضعيف تكون دائما عرضة للانهيار المبكر كما حصل مع شركة راياني اير لكن السؤال الأبرز الذي طرحته هذه الظاهرة , هل هنالك حاجة فعلا الى تأسيس طيران إسلامي ؟ وهل السوق بحاجة الى ذلك فعلا ؟ هذا الانهيار المدوي يؤكد انه في مجال الطيران يكون السوق بحاجة الى خبرة ورفاهية واحترافية اكثر من حاجته الى اقحام نماذج من المعتقدات لأسباب تجارية واستقطاب فئة محدودة وهذه الفئة على ما يبدوا تفضل الأمان والرفاهية اكثر من توفير الاوردة والاذكار وحجاب المضيفات .
تعليقات