بعد أن أصبح السفر بالطائرة شيئاً معتاداً، أصبح من النادر أن تجد طبيباً لم يستجِب ولو مرة واحدة لاستدعاء من طاقم الطائرة يرجو من أي طبيب أن يعرف نفسه.
وبالطبع فذلك لأن طارئاً حدث لأي راكب يستدعي تواجد طبيب للتعامل معه.
قد يتردد الطبيب هنيهة، ولكنه يستجيب عادة لنداء الواجب، ومنشأ التردد أن الطب ككل عمل يحتاج استعداداً نفسياً وذهنياً، والطبيب ككل البشر يحتاج إلى مثل هذا التهيؤ الذي لا يكون في خاطره وقد استقل الطائرة ليبدأ إجازة مثلاً، يضاف إلى ذلك أن طب الطوارئ قد أصبح تخصصاً بنفسه، وكثير من الأطباء كلما ازدادت خبرته، أمعن في التخصص والتخصص الدقيق، وبالتالي فلا يعود مألوفاً لديه التعامل مع حالات طارئة خارج مجاله، بل قد يصل الأمر أن متدرباً من غير الأطباء قد يكون أبرع في عمليات الإنقاذ الصحي من كثير من الأطباء، ولقد أصبح تجديد رخصة مزاولة الطب يقتضي أن يقوم الطبيب بإعادة التدرب في دورة الإنعاش القلبي الرئوي، وذلك لأن الهبوط القلبي الرئوي هو السبب المباشر للكثير من الوفيات، ولكن هذا لا يعني أن كل طبيب قد مارس ما تدرب عليه مراراً في واقع الحياة، وإن قام الطبيب بعمل الإنعاش القلبي الرئوي في حياته لأول مرة على مريض في الطائرة ووجد ذلك سهلاً، فهل يستطيع أن يقوم باستخدام جهاز الصدمات الكهربائي لإعادة العمل والانتظام إلى عمل القلب بالكفاءة المطلوبة؟!
مرت بذهني كل تلك التأملات وأنا أقرأ كتاب “طبيب في طائرة” للدكتور عبد الرحمن بن عبدالله حجر من
السعودية، وهو استشاري في أمراض الأنف والأذن، والكتاب يجمع بعضاً من تجارب الأطباء خلال استدعائهم لعلاج مريض على الطائرة، كما أنه يقدم شرحاً علمياً موجزاً للقارئ العادي يوضح فيه ما ورد في مقال كل طبيب من مصطلحات طبية قد لا يفهمها القارئ العادي بسهولة، ويشكل هذا إضافة ذات قيمة، وهناك بعض الشروح والتوضيحات التي تتعلق بفسيولوجيا الطيران وأنظمته ما يساعد القارئ على فهم ما يسبب بعض الإشكالات الصحية للمسافر بالطائرة.
والكتاب جدير بالقراءة، ولعل ما يلاحظه كل راكب للطائرة مما تتعرض له أذنه من أحاسيس تؤثر على حدة السماع هو ما استفز طبيباً يعمل في مجال الأنف والأذن للاهتمام بما يجري لطبيب أو لمريض في طائرة.
فالمعروف أن الأذن موكلة بالسماع وبالتوازن وكلاهما مما يتعرض لبعض الاضطراب الوظيفي على متن الطائرة، والشعور بضعف القدرة على السماع متعلق بأن طبلة الأذن تحتاج لتوازن الضغط الجوي على جانبيها، والضغط الجوي يؤثر على سطحها الخارجي بالانتقال عبر صيوان الأذن، وأما تأثير الضغط الجوي على السطح الداخلي للأذن فيتحقق عبر الهواء الذي يدخل للأذن من الفم عن طريق قناة استاكيوس التي تربط الفم بالأُذن الوسطى، وعليه فإنه مع الطيران يحتاج الإنسان لتكرار البلع أو مضغ اللبان أو الحلوى ليساعد في إدخال مزيد من الهواء عبر قناة استاكيوس.
تبدو معظم الحالات التي تؤدي إلى استدعاء طبيب لمعالجتها سهلة في الغالب، ولكنها تصبح أحياناً في منتهى الصعوبة وخاصة إذا استدعت أن يتم إدخال المريض إلى مستشفى خلال وقت قصير، فهذا يعني هبوطاً اضطرارياً للطائرة في مطار ليس على خريطة رحلتها، وما يمثله ذلك من إعاقة للركاب وللطائرة، كما أن المسؤولية القانونية على الطبيب في حالات عدم الوصول إلى التشخيص الصحيح، أو إعطاء العلاج الصحيح غير واضحة، وربما يفضّل البعض عدم الدخول في تفاصيلها حتى لا تثبط أطباء الصدفة، وعدم توفيق الطبيب في الوصول للعلاج الصحيح وارد، خاصة أن خطورة الحالة قد تستدعي تصرفاً من طبيب يقع تخصصه وخبرته في موقع بعيد جداً عن الممارسة الطبية الخاصة بتلك الحالة، إلى ذلك، فحدوث وفاة على الطائرة وحق الطبيب على الطائرة في إعلان الوفاة واختلاف أنظمة الدول وخطوط الطيران بهذا الشأن يزيد المسألة تعقيداً، وهو أمر غير مألوف وليس معهوداً للطبيب أن يكون مطلعاً عليه، بعض التجارب الطبية قد تبدو قريبة من المغامرة، فمثلاً اضطرار أحد الأطباء إلى إجراء تعديلات على قارورة الماء البلاستيكية لتصبح ناقلة للأكسجين إلى طفل، وما استدعى ذلك بعد تجربته من توفير كمامات أكسجين وأجهزة لقياس نسبة تشبع الدم بالأكسجين عند الأطفال، الأمر الذي لم يكن متضمناً في الصندوق الأبيض للطائرة إلا بمقاييس تصلح للكبار قبل تلك الحادثة، الصندوق الأبيض هنا هو الذي يحتوي على أجهزة للقياس وبعض الأدوية التي تتوقع الحاجة إليها بشكل طارئ على الطائرة، وسُمي بالصندوق الأبيض تمييزاً عن الصندوق الأسود الذي يشار إليه في حوادث تحطم الطائرات.
والسؤال المهم هنا كم تغطي محتويات هذا الصندوق من الاحتياجات العاجلة لكل الحالات التي يصدف حدوثها؟
فمثلاً لو أن امرأة حاملاً ولدت على الطائرة وتعرضت لنزيف بعد ولادتها فإن كل ما سيجده طبيب مهما كانت مهارته في التعامل مع هذه الحالات يعد أقل كثيراً مما تدعو الحاجة إليه، الأمر الذي لن تسعفه فيه المهارة والخبرة.
الحالات التي وجدت نفسي معنياً بها في الطائرة كانت سهلة نوعاً ما وإن لم تكن في مجال تخصصي، وأكثر ما لا أتمناه أن أضطر إلى مباشرة حالة امرأة تلد على سطح الطائرة.
إن التطورات الحديثة جعلت الطيران مسألة آمنة للحامل، والمقصود أن التغيرات الجوية في الطائرة لا تضر بالحامل ولا بجنينها، ولكن هذا لا يعني ألا تتعرض الحامل على الطائرة لما يمكن أن يحدث لها على الأرض.
أورد الكتاب الذي ذكرته ذكريات عن حالتيّ ولادة طبيعية على سطح الطائرة كان الطبيب المباشر لها غير متخصص في الولادة وكانت الأمور سهلة، لكن لو حدثت الولادة على الطائرة وكانت من خُمس الولادات التي تقتضي إجراء عملية، ولنفترض حدوث ذلك على طائرة تسافر بين أميركا وأوروبا، هل يمكن إجراء هبوط اضطراري في مطار قريب قبل أن تتضرر حالة الأم أو الجنين تضرراً بليغاً؟ وماذا بعد الولادة لو حدث نزيف بعد الولادة وكان مما نشاهده أحياناً مما يلزم أن تكون الأم قريبة من بنك الدم لتحافظ على حياتها؟!
قد يقول قائل: إن الحوامل اللواتي يكون احتمال تعرضهن لمخاطر توليدية أكثر من غيرهن لا يسافرن في العادة خلال الحمل..افتراض صحيح ولكنني أرى تزايداً في عدد الأمهات اللواتي يرتبن للولادة في أميركا والدول الاسكندنافية حتى يظفر مواليدهن بجنسية تلك الدول، ونسبة ذوات الحمل الخطر بينهن كبيرة؛ لأن هؤلاء هن الأكثر حاجة للسفر لغايات الهرب من بلاد لا ضمانات اجتماعية فيها إلى بلاد فيها ضمانات اجتماعية وفيرة.
خذ مثلاً ذوات الحمل المتعدد، توأم أو ثلاثة، كيف يكون الحال لو تعرضن لولادة مبكرة ومن يستطيع توليدهن؟ وكيف يمكن الاعتناء بأجنتهن المبتسرة؟!
علماً بأن كثيراً من شركات الطيران تمنع سفرهن، ولكن الهروب من عالم الحرمان والفقر يدفع كثيرات للتحايل على خطوط الطيران، وبعض المحظوظات منهن قد يكون لهن تأمين صحي، لكن ما فيه من شروط يحتاج إلى أن يقرأه طبيب حتى يتأكد من أن التأمين يغطي هذه الأم الطموحة والمحتاجة من بنات عالمنا الثالث المدقع.
يورد الكتاب حالتين لا بأس أن أشير إليهما ببعض التفصيل؛ أحد الأطباء ذكر أنه استدعي لمعاينة راكب آسيوي على رحلة من واشنطن إلى الكويت، وكان يشكو ألماً شديداً في الجانب الأيسر من صدره ويعاني من صعوبات تنفسية، وجد الطبيب أن علامات المريض الحيوية طبيعية، ولكن ذلك ليس كافياً لتطمئن على مريض يشكو من ألم في منطقة القلب، وقد يتعرض فجأة للموت من غير مقدمات طويلة تتغير فيها علاماته الحيوية، اقترح الطبيب أن تهبط الطائرة في أسرع وقت وهو التصرف الطبي السليم، أجابه الملاحون بأنهم سيهبطون في مطار الجزيرة الخضراء، استغرب الطبيب لأن المطار المذكور بعيد بينما تحلق الطائرة في الأجواء الأميركية؛ حيث المطارات والمستشفيات الكثيرة لكن أحداً لم يعِره أي اهتمام، استمرت الطائرة في سيرها المبرمج لتصل بعد أكثر من عشر ساعات إلى الكويت دون توقف، وهذا الوقت كفيل بأن تنتهي معه حياة أي مريض يتعرض لذبحة صدرية وهو ما اشتبه فيه الطبيب بالنسبة لمريضه الآسيوي؟
ثم فهم الطبيب أن الملاحين تعاملوا مع هذا الراكب بحكم خبرتهم مع كثيرين من نفس جنسيته يدّعون المرض ليتم إنزالهم في أميركا، وهناك يطلبون اللجوء السياسي ويصبح التخلص منهم صعباً.
الحالة الأخرى ليست بعيدة عن الأولى في الشكل وإن تغير التصرف من ناحية الطائرة وتبين أن المريض كان على حالة خطرة، الحالة تخص الدكتور عبدالرحمن السميط، رائد الأعمال الإغاثية في إفريقيا، فقد هبط في إحدى رحلاته في الصومال وشعر هناك بالتوعك فأوكل من يقوم بمهمته وركب نفس الطائرة عائداً إلى الكويت حيث شعر بآلام في الصدر، لم يكن هناك طبيب على الطائرة، ولمقام الدكتور السميط فقد قامت الطائرة بالهبوط اضطرارياً في جدة، الطبيب الذي عاين الدكتور السميط طمأنه بأن كل شيء على ما يرام، ولكن الدكتور السميط طلب إجراء تخطيط قلب ولكن طبيبه طمأنه مرة أخرى بأن التخطيط لا يشير إلى ما يقلق، لكن الدكتور السميط طلب أن يرى بنفسه التخطيط؛ حيث إنه طبيب يحمل أعلى درجات التخصص في الأمراض الباطنية، وقال بعد معاينة التخطيط إنه ربما كان هناك بداية احتشاء في عضلة القلب، الأمر الذي يصعب الجزم به من خلال تخطيط القلب وحده، ولكن ولمكانة الدكتور السميط -رحمه الله -فقد تم نقله إلى المستشفى لإجراء مزيد من الفحوصات وتبين حاجته لجراحة قلب مفتوح، وقد نقل إلى الرياض لإجرائها، بتأمّل الحالة الثانية، لو لم يكن للدكتور السميط شأن لكان حاله حال المريض الآسيوي ولربما كانت النهاية مأساوية!
ولذا فإن سوء التقدير قد يكون نصيبك فقط بحكم مكان ولادتك، ولو كان الراكب الآسيوي حاصلاً على الجواز الأميركي هل كانت معاملته ستكون كما رُوينا؟
يلاحظ القارئ أن معظم التجارب التي تطوع أصحابها بذكرها كانت تجارب سارة في النهاية، والتجربة الوحيدة التي ذكرت ولم تكن سارة على الأقل للطبيب الذي باشرها هي حالة الدكتور السميط التي تحدثنا عنها، وقد رواها ابن المريض وليس الطبيب، وهذا لا يعني أنه لا توجد حالات غير سارة تحدث مع طبيب الصدفة، ولكن الطبيب ككل البشر لا يميل إلى ذكر الأمور التي لا يسره ذكرها، خاصة أنها ستُنشر في كتاب وعليها اسمه، ولو أراد الكاتب أن يكون تسجيله أكثر واقعية لكان عليه أن يحصل من أطباء على تجاربهم بشكل يحفظ للطبيب سرية اسمه ويحميه من تعرض سمعته للانتقاص.
هناك الكثير مما يرد في الخاطر مما يمكن التعليق به على هذا الكتاب، ولعل قارئاً يرى أن التخوفات التي تعترينا أمر مبالغ فيه، ولربما أن تجارب بعض الأطباء الذين يمارسون المهنة لفترة طويلة تجعلهم يظنون أن الدنيا ليست إلا مشفى كبير، على وزن ما الدنيا إلا مسرح كبير، العبارة الشهيرة ليوسف وهبي.
ولكن هذا لن يمنعني من التساؤل مع مؤلف الكتاب: أليس من الحكمة أن يكون في بعض الطائرات التي يصل ركاب بعضها إلى الثمانمائة طبيب مختص في طب الطيران، أو أن تحتوي كل تذكرة على معلومات وافية عن صحة صاحبها ليسهل التعامل الطبي معه؟ أسئلة لا بد منها، ولو أفسدت علينا متعة السفر بالطائرة.
تعليقات