وعدت النرويج أن تسير كافة رحلاتها الجوية القصيرة بحلول عام 2040 على متن طائرات كهربائية، وهو ما يبشر بثورة في عالم الطيران.
في يوليو/تموز 2018، انطلق وزير النقل النرويجي كتيل سلوفيك-أولسن برفقة داغ فولك-بيترسن، رئيس هيئة أفينور للموانئ الجوية النرويجية، في رحلة متميزة تابعتهما فيها الكاميرات وهما يستقلان طائرة صغيرة من طراز "ألفا إلكترو جي-2" سعة راكبين لتحلق بهما لبضع دقائق في سماء أوسلو.
أما السبب في تميز تلك الرحلة فهي أن الطائرة تسير بالكهرباء بالكامل، تمدها بها بطارية خاصة، لتحقق ما كان يوما حلما، ولتكن مجرد بداية.
والهدف من الرحلة التأكيد على ما تعتزمه النرويج من خفض ضخم في العقود المقبلة لانبعاثات غاز الكربون، وبحلول 2040 تنوي البلاد أن تنطلق كافة الرحلات القصيرة من مطاراتها على متن طائرات تدار بالكهرباء.
ويعد الالتزام الذي قطعته النرويج بين أضخم الوعود حتى يومنا هذا بصدد خفض ما ينتجه قطاع الطيران من غازات الدفيئة، ولكن هناك ما يحول دون ذلك، وهو عدم وجود طائرات كبيرة تتسع لنقل الركاب وتدار بالكهرباء، فكافة الطائرات الكهربية حاليا صغيرة الحجم، كالتي أقلت أولسن وبيترسن والتي بالكاد تتسع لفردين بالغين.
وقال المسؤولان إنه تعين عليهما الالتزام بحمية شاقة لإنقاص وزنهما قبل الرحلة، ومع ذلك يعقد بيترسن الأمل في تغير الوضع قريبا.
يقول بيترسن إن مسؤولي الطيران في النرويج كانوا قبل بضع سنوات يعتقدون بعدم إمكان الاعتماد على الكهرباء كليا في إدارة حركة الطيران، "حتى توجه مجلس إدارة هيئتنا قبل نحو ثلاث سنوات لزيارة لشركة إيرباص في تولوز.
"وهناك علموا أن الشركة تباشر بالفعل جهودا لإنتاج طائرات تسير بالكهرباء، وأن الأمر لا يقتصر على إيرباص، بل أيضا بوينغ عبر شركة زونوم إيرو وبمساهمة من ناسا. ومن ثم قررنا إطلاق برنامج للطائرات الكهربية في النرويج".
وتعد النرويج مكانا مناسبا لإطلاق تلك التجارب، نظرا لطبيعة تلك البلاد الجبلية والساحل المتعرج حيث الكثير من الجزر، مما يتطلب الكثير من الرحلات القصيرة (فهيئة أفينور مسؤولة عن تشغيل 46 مطارا في النرويج)، حيث يستغرق التنقل برا وبحرا وقتا أطول كثيرا مما تستغرقه الرحلات القصيرة خاصة في الشتاء حيث تغلق الثلوج كثيرا من الطرق والسكك الحديدية.
يقول بيترسن: "الكثير من رحلاتنا تستغرق 15 إلى 30 دقيقة وكثير منها بمناطق جبلية وعرة، لذا سنطرح مناقصة لشركات صناعة الطائرات للتقدم بعطاءات خلال عام لعامين".
ترغب النرويج في أن تطرح الشركات طائرات سعة 25 إلى 30 راكبا تدار محركاتها بالكهرباء بحيث تدخل باكورتها الخدمة بحلول 2025، وهو ما يراه بيترسن أمرا واقعيا مع ما تشهده تلك الطائرات من انتعاش في الوقت الراهن.
ففي العام الماضي أشارت شركة رولاند بيرغر الاستشارية لوجود أكثر من 100 مشروع لطائرات تدار كهربيا يتم تطويرها على مستوى العالم.
ومن تلك المشروعات شركة بيبسترل في سلوفينيا التي يقول المتحدث باسمها إن الشركة بصدد صناعة "عدة طائرات تتسع كل منها لأربعة أشخاص، أبرزها الطائرة توروس جي-4، أول طائرة كهربية ذات أربعة ركاب في العالم".
ويضيف: "كما طورنا نماذج أخرى لطائرات تتسع لأربعة أشخاص تعتمد على وسائل أخرى كالدفع بالهيدروجين، كذلك طورنا محركا مزدوجا لطائرة بأربعة ركاب، وسوف تنطلق الطائرة في 2019 حسب الخطة".
وتقول الشركة إنها تركز في المستقبل القريب على الطائرات ذات الراكبين والأربعة ركاب لاستخدامها كطائرات تدريب، بينما تنوي صناعة طائرة تتسع لتسعة عشر راكبا "بمحرك وقود مزدوج للرحلات القصيرة" بحلول 2025.
وإلى جانب بيبسترل، هناك شركة زونوم إيرو بإحدى ضواحي سياتل والتي تخطط هي الأخرى لطائرات كالتي تأمل النرويج أن تستخدمها قريبا.
تأسست زونوم إيرو عام 2013 وتلقت استثمارات من شركة بوينغ العملاقة للطيران، وتسعى لصناعة طائرات أضخم وأثقل.
ويقول أشيش كومار، المدير التنفيذي لزونوم إيرو، إن الشركة تحرص على تلبية حاجات النرويج في إطار برنامج أشمل لخفض الانبعاثات الصادرة عن وسائل النقل.
ويشير كومار إلى نشاط شركته في المجال منذ خمس سنوات، قائلا: "تابعنا تجارب الآخرين في صناعة تلك الطائرات وتعلمنا منها".
وتخطط الشركة مبدئيا لصناعة طائرة رحلات قصيرة تتسع لاثني عشر راكبا لتقلع بحلول 2022، بينما تخطط لأخرى تتسع لخمسين راكبا وتطير مسافة ألف ميل بحلول 2027.
ولا تتوقف خططها عند هذا الحد، إذ يعتقد كومار أنه سيكون بالإمكان تسيير طائرة "تتسع لمئة راكب وتطير مسافة 1500 ميل بحلول أواخر العشرينيات"، مؤكدا قدرة الشركة على تلبية حاجة النرويج.
وتعد تلك الخطط طامحة نظرا للتحديات التي تواجه صناعة طائرة ركاب تسير بالكهرباء، فالطائرات التي تقل عشرات الركاب فضلا عن حقائبهم تتطلب كميات هائلة من الطاقة للإقلاع ومواصلة التحليق.
ورغم كون طائرات اليوم أخف وزنا وأكثر اقتصادا في استهلاك الوقود عن ذي قبل، فإنه لا يوجد وقود غير الكيروسين لديه كثافة للطاقة تكفي للاستخدام في طائرات الركاب.
ورغم أن البطاريات تخزن الطاقة الكهربية، إلا أنه اعتُقِد قبلا أنه يلزم الكثير منها لتوفير ما يكفي من طاقة لطائرة صغيرة مما سيجعل وزنها يفوق قدرة الطائرة على الإقلاع والتحليق.
لكن كومار يقول إن مشكلة البطاريات ربما كانت أقل المشكلات، فالتحدي الأكبر يتمثل في باقي الأنظمة الكهربية لطائرة من هذا القبيل، فهل توفر البطاريات ما يكفي من طاقة بشكل آمن ومنتظم لعمل أنظمة الرحلة الحساسة طوال الوقت؟ وماذا عن الحرارة المتولدة عنها؟
وثمة حل يتمثل في تقليل الحجم الإجمالي للطائرات المستخدمة في الرحلات القصيرة، فحاليا تصمم أغلب الطائرات لتناسب رحلات متوسطة وطويلة المسافة، إذ يقول كومار إنها "تصمم لرحلات تمتد لأربعة آلاف ميل، بينما 80 في المئة من الرحلات التي تسير فيها تكون دون 1500 ميل. أي أن طائرات مصممة لقطع مسافات متوسطة إلى طويلة تستخدم في رحلات قصيرة".
وقد بات لزاما الكف عن استخدام تلك الطائرات الأضخم والأثقل والأكثر تكلفة لخدمة مسارات قصيرة والاستعاضة عنها بطائرات أخرى.
وتشير شركة زونوم إيرو، وهيئة أفينور، إلى فوائد أخرى للطائرات التي تعمل بالكهرباء بالكامل بخلاف خفض انبعاثات الغازات، فالطائرات الأصغر لن تحتاج لمدارج ضخمة، وسيمكنها الإقلاع من مطارات أصغر والهبوط فيها، وستكون الضوضاء الصادرة عنها أقل وبالتالي سيمكن تسيير أعداد أكبر منها في ساعات الليل المتأخرة والصباح الباكر.
ولو أمكن إقلال وزن البطاريات سيقل الوزن الإجمالي للطائرة، ومن ثم ستحتاج لطاقة أقل لتسييرها.
وسيترجم هذا في شكل نفقات تشغيل أقل وبالتالي تذاكر أرخص - ما سيحفز شركات الطيران على تسيير المزيد من تلك الطائرات (كما حدث في حالة الطيران الزهيد).
ويقول كومار إن الطائرات الراهنة تولد بالفعل كما هائلا من الطاقة لتشغيل أنظمة رحلتها - فما تولده الطائرة بوينغ 787 "دريم لاينر" قد يناهز 1.3 ميغاواط؛ أي ما يكفي من كهرباء لإنارة 850 منزلا.
ويرى كومار أن التحدي الأكبر هو توليد خمسة ميغاواط، وهو ما يتوقع أن يكفي طائرة تقل 100 راكب.
ويتوقع بيترسن أن يستعين الجيل الأول على الأقل من تلك الطائرات في النرويج بالتقنية الهجينة أو تقنية الوقود المزدوج، فطبقا لقوانين سلامة الطيران يلزم أن تحمل الطائرة ما يكفي من وقود على سبيل الاحتياط لتحويل مسارها في حالة الطوارئ.
وقد أثبتت السيارات الهجينة على غرار السيارة تويوتا بريوس أهميتها بالنسبة لخدمات الأجرة عبر الإنترنت مثل خدمة أوبر. ويمكن شحن البطاريات وتخزينها لحين الحاجة ومبادلتها بالبطاريات المستخدمة والتي يتم شحنها واستخدامها في طائرة أخرى.
ولو نجحت خطة النرويج فستمتد أثارها لدول أخرى، فلو تم تسيير كافة الرحلات الأقل من 90 دقيقة على متن طائرات كهربية، فسيتسع مدى الرحلات ليشمل مدنا إسكندنافية قريبة من النرويج، فضلا عن بلدان أخرى.
وسيتعين أن تشتري بلدان أخرى غير النرويج تلك الطائرات حتى تستطيع الشركات تغطية تكلفتها وتحقيق أرباح.
يقول بيترسن إن إيرباص تخطط لصناعة طائرة كهربية تقل 100 راكب مسافة ألف كيلومتر بحلول 2030.
وستكون البنية التحتية من التحديات الكبرى أمام مشروع كهذا، فرغم ثراء النرويج وتمتعها بشبكة مواصلات جيدة إلا أن نقل شحنات الكيروسين عملية معقدة ومكلفة، وسيتعين على النرويج أن تقرر ما إذا كانت ستصل محطات الشحن الكهربي لطائراتها الجديدة بشبكة الكهرباء العامة للبلاد أم ستستعين بوسائل بديلة لتوليد الكهرباء المطلوبة.
لكن النرويج خطت بالفعل على طريق طائرات الرحلات القصيرة المسيرة بالكهرباء بالكامل، فرحلة بيترسن التي تابعتها الأنظار لم تكن حدثا منفردا.
يقول بيترسن: "استمرت تلك الرحلة نحو 15 إلى 20 دقيقة، وقد قمت باثنتي عشرة رحلة في نفس اليوم دون أن نضطر للتأخر ولو مرة واحدة لشحن البطاريات".
وتابع قائلا: "أقلعنا والبطارية مشحونة بالكامل ومع الهبوط بعد 20 دقيقة لم نكن قد استنفدنا سوى ربع البطارية. أوقفنا الطائرة حيث أراد فني الشحن، بينما اتجهنا لتقييم الرحلة والاستعداد على عجل للرحلة التالية. وما إن وصلنا للطائرة مجددا إلا ووجدناها مشحونة بالكامل، كما كانت قبل انطلاق الرحلة السابقة".
واختتم بيترسن قائلا: "نعتقد أن تكنولوجيا الطائرات المسيرة كهربيا أصبحت واقعا".
تعليقات